Type Here to Get Search Results !

الأرواح التائهة في دهاليز الكون


بقلم: بلقيس خيري شاكر البرزنجي 

محافظة السليمانية أقليم كوردستان العراق.

في أحد أزقة فرنسا المهجورة، يظهر شبح ببنطاله الكلاسيكي البالي، يتأمل فتيات مدرسة الإعدادية، يراقب ابتساماتهن العابرة. دخان السجائر يتصاعد منه، يرسم في السماء لوحة سوداء من الضباب. يمر عجوز ينوء بحمل أكياسه، لكنه يغمض عينيه ويتجاهله، يطلق ضحكة ساخرة تتردد صداها في الزقاق، ثم ينشد أغنية بصوته تفر منها العصافير مذعورة...تقف أمامه طفلة صغيرة، تحمل علبة علكة عيناها تتوسلان، دموعها تلمع كاللؤلؤ. لكنه يدير وجهه، يتجاهل توسلاتها. تعود الطفلة، فيدفعها بقسوة، فتسقط علبة العلكة، وتتبعثر حباتها على الأرض. يسمع صوتها الخافت،وهي تقول له"هذا العالم مليء بالدنيئين امثالك... يوماً ما ستضيع كما تضيع الحشرات تحت أقدام الناس... ستصيبك لعنة القسوة". كلمات من طفلة بريئة، تزلزل كيانه، لكنه يتظاهر باللامبالاة لأنه يمتلك قلبا ميتا فقد الشعور بالآخرين...يقف أمام متجر خمور، يرمي بضعة قروش ويطلب زجاجة ويسكي. يغرق في دوامة ضياعه، في حلقة مفرغة من الهلوسة. خطواته غير متزنة، ورائحة الكحول النتنه تفوح من قميصه...

قطة سوداء تلتف حول قدميه، فيركلها بعنف. تصرخ القطة، وتحدق فيه بنظرة حقد، ثم تختفي. يجد نفسه فجأة 

أمام واجهة المقهى الباريسي، تراءت له كحلم اليقظة، أو ربما ككابوس فاتن. جلسَتْ على الطاولة، متقاطعة الساقين، شفتان محمرتان كالكرز، تتبسّمان بزهو، وعيناها البندقيتان تعكسان غرورًا آسرًا، كبرياء يفيض من نظراتها. ارتدت تنورة فرنسية أنيقة، وقميصًا حريريًا يحمل علامة تجارية لمعت في صفحات مجلة "فوغ" الإيطالية الأسبوع الماضي....في تلك اللحظة، التقت عيناهما، فأطلقت عليه نظرة ازدراء، حاجبان معقودان، ورأس مرفوع بتكبر، كأنها ترفضه من أعماقها.

اقترب منها متذللًا، يطلب عنوانها، لكنها سخرت منه ببرود، ثم حملت حقيبتها الحمراء وغادرت، تاركةً خلفها ضحكات ساخرة تتردد في أرجاء المقهى. الناس يحدقون به، وقد سُحق كبرياؤه على يد تلك المتغطرسة. مشى بخطوات يائسة، ثم سقط عند باب المقهى، فاقدًا للوعي، غارقًا في بحر من الظلام.

تلاشى جسده بين الحشود، كأنه ذرة رمل تائهة في صحراء قاحلة. هكذا كان هو، يمتلك قلبًا قاسيًا لا يعرف الرحمة، فحلّت عليه اللعنة التي يستحقها. قلب متحجر وروح ميتة تصيبها لعنة تجعل الأرواح الضائعة تائهة في دهاليز الفضاء الباردة والمظلمة، باحثة عن ضوء نجمة بعيدة المنال، لا تجد الضوء إلا عندما تفتح جهنم سعيرها، وتتأجج نيرانها، وتعلو صرخات الألم والندم، كأنها نهاية حتمية لطريق لانور ولا أمل فيه.