Type Here to Get Search Results !

بين السيف والكلمة كربلاء تنطق من جديد



بقلم: نجوان حكمت

المقدمة:

حينما يتوقّف التاريخ عند لحظةٍ من النور، تتجلّى كربلاء.

وحين يعجز المنطق عن فهم عظمة التضحية، يُنصت للفلسفة التي نطق بها دم الحسين.

واقعة الطف ليست فصلًا من سيرة، بل وجدانٌ يصرخ في وجه العصور، أنّ الإنسان خُلق ليختار، وأنّ الحريّة لا تُوهب، بل تُنتزع من فكّ الظلم بثمنٍ باهظ… اسمه الدم.


في زمنٍ استحال فيه الصمت دينًا، والمجاملة عقيدة، وقف الحسين عليه السلام ليقول الكلمة التي خافت منها العروش:

“إنّي لم أخرج أشِرًا ولا بَطِرًا، إنما خرجت لطلب الإصلاح”.

ومن هذه الكلمة انبثقت فلسفة كربلاء، حيث تلاقت مبادئ السماء مع تضحيات الأرض، وحيث صار الدم لغةً خالدةً للعدالة، والشهادة معنى نقيًّا للوعي والكرامة.


لم تكن كربلاء مجرّد واقعةٍ عسكرية أو نزاعٍ سياسي على الحكم، بل كانت سؤالًا وجوديًا صاخبًا في وجه العالم: هل يمكن للحق أن يُهزم؟ وهل يُقاس النصر بعدد الجثث أم بخلود الفكرة؟


خرج الحسين عليه السلام من المدينة لا هاربًا من قدر، ولا ساعيًا إلى جاه، بل خرج وفي عينيه ضوء الحقيقة، وفي قلبه صوت النبوّة، وفي خطاه درب الأنبياء. خرج ليقول كلمة “لا” في زمنٍ كان “السكوت” فيه أثقل من الموت.


في كربلاء، لم يكن الصراع بين جيشين، بل بين مبدأٍ ومصلحة، بين النور والظلام، بين إنسانٍ اختار أن يكون حرًّا حتى اللحظة الأخيرة، وجموعٍ رهنت ضمائرها لسلطةٍ تخشى الكلمة كما تخشى السيف.


الحسين عليه السلام لم يمت حين سقط جسده على الثرى، بل مات من قتله، ومات من رضي بذلك، ومات كل من صمت عن الظلم واختار العيش على هامش الكرامة. أمّا هو، فقد بدأ حياته الحقيقية هناك، لحظة أن انهمر دمه الطاهر على تراب الطف، لتولد من قطراته أُممٌ وأفكار، وتُبعث ضمائر.


واقعة الطف ليست مأساةً تُبكى فحسب، بل مدرسةٌ تُوقظ، وسؤالٌ يُطرح على كل جيل: حين تقف على مفترق الطرق بين الذلّ والدم، أيّهما تختار؟


لم يكن الحسين مشروع موت، بل مشروع حياة. أراد أن يُعيد تعريف النصر، أن يُخرج الكرامة من تحت الركام، وأن يجعل من دمه جسرًا تعبر عليه الإنسانية نحو حريتها.


وكربلاء ليست في التاريخ فقط، بل فينا، في كل موقفٍ نهادن فيه الظلم، أو نصمت عن باطل. وكلّما ارتفع صوت في وجه الطغيان، وارتجف ضميرٌ حيّ، ووقف إنسان لله… عادت كربلاء، ونهض الحسين من جديد

أثر كربلاء في الفلسفة الإنسانية


واقعة كربلاء، وإن بدت حدثًا محدودًا في الزمان والمكان، فإن أصداءها ما زالت تتردد في ضمير الإنسانية جمعاء، لأنها لم تخاطب طائفة أو أمة، بل خاطبت الكينونة البشرية في أعمق تجلياتها.


في الفلسفة، يُطرَح السؤال الأزلي: ما هي الحرية؟ وما معنى أن يكون الإنسان حرًّا؟

وقد أجاب الحسين عليه السلام عن هذا السؤال دون تنظير أو جدال، بل بجسده ودمه وصموده.

لقد جسّد أرقى معاني الحرية حين اختار الموت واقفًا على أن يعيش راكعًا، ليُثبت أن الحرية ليست مجرد مطلب، بل مسؤولية، وأن الثمن الحقيقي لها هو التضحية بكل شيء، حتى الحياة.


ومن هنا، فإن كربلاء أصبحت مفهومًا وجوديًا يتجاوز السياق الديني إلى الأفق الإنساني الواسع، تُدرَّس فيها الشجاعة لا بوصفها غلبةً للخصم، بل ثباتًا على المبدأ، وتُفهم فيها الشهادة لا كرحيل، بل كبعثٍ جديد للروح التي تأبى أن تموت صامتة.


رمزية السيدة زينب (عليها السلام): صوت الحقيقة بعد صمت السيوف


وإذا كان الحسين عليه السلام هو دمُ كربلاء، فإن زينب عليها السلام كانت صوته.

في خضمّ الركام، وبين الجثث والأنين، وقفت امرأةٌ تحمل جسد الأمة وروحها، لتُكمل ما بدأه أخوها. لم يكن بكاؤها ضعفًا، بل احتجاجًا، ولم تكن خطبتها في الكوفة ويزيد صرخةً عابرة، بل بيانًا فلسفيًّا للكرامة، وحجّةً على التاريخ.


زينب، المرأة التي رأت رأس أخيها مرفوعًا على رمح، لم تنكسر، بل جعلت من كل مشهدٍ مروّعٍ منبرًا للحق، لتُثبت أن البطولة لا تقتصر على من يموت، بل أيضًا على من يقف بعدهم ويحمل الرسالة.


لقد كانت زينب تجسيدًا لعظمة المرأة حين تتجلى في أعلى مراتبها: وعي، وثبات، وشجاعة. لم تُهزم لأن صوتها بقي، والصوت إذا بقي… لا يُهزم.


الزمن في كربلاء: لحظةٌ تجاوزت الدهر


كربلاء ليست يومًا في عاشوراء فقط، بل لحظة أبدية ترفض أن تُختزل في تقويمٍ أو تاريخ.

لقد تحوّلت الواقعة من حدثٍ زمني إلى وعيٍ مستمر، ومن معركةٍ بالسيف إلى ثورةٍ في الضمير.


فالزمن في كربلاء لم يكن يسير كما نعرفه، بل انكسر.

في ظهيرة العاشر من محرّم، بدا وكأن عقارب الساعة توقّفت، واصطفّت لحظة الخلود تنتظر الدم الأول ليتحوّل من نزيف إلى نور، ومن طعنات السيوف إلى خفقاتٍ في وجدان الشعوب.


كربلاء لم تُقَدَّم كأثرٍ من الماضي، بل كدعوة للوقوف الأبدي في وجه كلّ ظلم، في كلّ عصر. ولذلك، فإنّ كل من يسلك درب الوعي والعدل، يمرّ بكربلاء، ويقف عند بابها، ليتعلّم أن الشهادة ليست نهاية، بل ولادة.


الثورة الحسينية في الوعي الإنساني: من التمرّد إلى البعث


لم تكن ثورة الحسين ثورة على رجلٍ اسمه يزيد فقط، بل على مفهومٍ مشوّه للسلطة، وعلى الاستسلام، وعلى تحوّل الأمة إلى قطيعٍ من الصامتين.

لقد أعاد الإمام الحسين تعريف معنى الثورة، ليس كحركة عنف، بل كإرادة حق، وموقف لا يُباع، ووعيٍ لا يُستعبد.


إنّ الإنسان حين يُواجه الظلم، يقف أمام خيارين: أن ينحني ليستمر، أو أن ينهض ليموت واقفًا.

والحسين، حين اختار الثانية، لم يكن يُعلّمنا كيف نموت، بل كيف نعيش بعزّة، حتى لو كان ثمن ذلك هو الموت.

لقد وهب الحسين روحه ليعيد للبشرية ملامحها الأصلية، بعد أن كادت تُفقد في زيف الدنيا، وغرور الملوك، وفساد العروش.

فأصبح رمزًا تتجاوز رسالته الديانات والطوائف، وتلامس كل إنسانٍ سَئِم من القهر، وأدرك أن الصمت جريمة، وأنّ السُكوت على الظالم ظلمٌ آخر.


العدل والظلم في ميزان كربلاء


منذ فجر الخليقة، كان الصراع بين العدل والظلم هو النبض السريّ للتاريخ. وكربلاء لم تكن استثناءً من هذا القانون الكوني، بل كانت تجلّيًا صارخًا له، بوضوحٍ لم تبلغه أية واقعة قبله ولا بعده.


لقد اختار الحسين أن يكون كفة الميزان التي ترجحها دمعة مظلوم، لا سيف ظالم. أن يكون هو الضحية، لا الجلاد، ليقيم الحُجّة على الأرض وأهلها، بأنّ العدالة لا تولد من رايات الجيوش، بل من دمعة أم، ونخوة حرّ، ورفض عبدٍ لقيوده.


الظلم، في كربلاء، لم يكن فقط قتل جسد، بل محاولة لقتل قيم: إخماد صوت النبوة، وتحويل الدين إلى أداةٍ للحكم لا للهداية.


لكن الحسين، حين وقف مع سبعين من أصحابه في وجه الآلاف، كان يُعيد تعريف القوة:

القوة ليست في كثرة العدد، بل في صفاء الهدف.

وليست في البطش، بل في الاستقامة.


ومن كربلاء تعلّمنا أن العدالة قد تُذبح، لكنها لا تموت، وأنّ للحقّ صوتًا، حتى وإن صلبوه، فإنّه يعود، أقوى، وأنقى، وأبقى.


الخاتمة:


 الحسين… نورٌ لا يُطفأ


الحسين عليه السلام لم يذهب إلى كربلاء ليربح معركة، بل ليوقظ أمة.

لم يحمل السيف ليفرض سلطته، بل ليرفع مسؤولية الكلمة من رماد الخوف، ويعيد للإنسان وعيه الضائع بين فتات الدنيا.


كربلاء ليست نصًا مقدسًا يُقرأ في العاشر من محرّم فقط، بل هي سؤال دائم في وجدان كل من يعيش على هذه الأرض:

أين تقف؟ مع من؟ ولِماذا؟


فإن اخترت أن تقف حيث وقف الحسين، فاعلم أن وقوفك ليس لحظة، بل موقف.

وإن رفعت صوتك في وجه الظالم، فقد سرتَ في دربه.

وإن سجدت لله سجدة عزّ، فأنت ابن كربلاء، وإن لم تكن فيها.