Type Here to Get Search Results !

الثقافة الإسلامية في السودان الغربي

الكاتبة: نجوان حكمت 

إن الثقافة الإسلامية والحوادث التي أحدثتها الثقافة العربية الإسلامية في مجتمعات السودان الغربي من القرن الحادي عشر الميلادي حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي, بعد أن وصلت إلى المنطقة مع الهجرات القادمة من الشمال الأفريقي منذ أوائل القرن الأول الهجري / السابع الميلادي, المتمثلة في هجرات الأمازيغ و القبائل الهلالية و الحسانية و الكنتية, و القبائل الصنهاجية ببطونها المتعددة و غيرها من القبائل الزاحفة من الشمال, بعد أن حدث الاحتكاك بينها و بين القبائل الزنجية الأفريقية, التي تم تسليط الضوء عليها في متن هذا البحث.

و قد اتضحت معالم هذه التأثيرات مع بداية القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي, بسبب الدور المهم الذي أداه التجار, و الرحالة, و الفقهاء, و رجال الطرق الصوفية, التي تمثلت في انتشار الإسلام و اللغة العربية, إضافة إلى فنون العمارة و النحت و النقش.

هذا و قد ألقت الدراسة الضوء على عدد من اللغات الأفريقية المهمة في السودان الغربي, التي تأثرت باللغة العربية, مثل لغة الولوف, و لغة الماندنج و لغة الموشي كما تم تسليط الضوء على المعتقدات الدينية المحلية في المنطقة, و تم انتقاد مجموعة من المفاهيم حول هذه المعتقدات,وأيضاً إلى العادات و التقاليد الاجتماعية في منطقة السودان الغربي, قبل أن يصل إليها الإسلام, و كان من الطبيعي, صعوبة تقبل هذه الجماعات لبعض التغييرات التي أحدثها الإسلام, غير أنه مع ترسخ و تجذر ثقافة الإسلام و قيمة فيها تقبلته هذه الجماعات, و بدأت تنظر إلى بعض ثقافاتها و تقاليدها القديم

لذلك اعتنق الأفارقة الإسلام و تكيفوا مع ثقافته لشعورهم أن هذا الدين ليس دخيلا بقدر ما أنه يتجاوب مع تطلعاتهم الروحية و الاجتماعية و الوطنية, و إنه ليس بعيدا عن ما كانت تقول به أطروحاتهم, بل يتسامى كونه دين توحيد, و لهذا لم تستطع الديانات الأفريقية, و المسيحية, و الوثنية من الصمود أمام قوة حجته.

و عن الوسائل التي انتشر بها الإسلام في منطقة السودان الغربي, و تتبعت مراحل انتشاره و عوامله, كما تطرقت إلى الأثر الذي أسهمت به قوافل الحج و الطرق الصوفية و المراكز التجارية في نقل المؤثرات العربية الإسلامية إلى المنطقة.

و إلى مملكة السنغاي الإسلامية كونها كانت من أكثر الممالك الإسلامية التي قامت في السودان الغربي, تنظيما, و ذلك بسبب تجذر و نضج المؤثرات العربية الإسلامية, ذلك بعد أن تأثرت بالأنظمة العربية الإسلامية, فانعكس ذلك على شتى مناحي الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.حيث كان للإسلام الفضل الأكبر في نقل اللغة العربية إلى أماكن كثيرة في إفريقيا، وبخاصّةٍ في إفريقيا جنوب الصحراء، حيث ارتبط ظهور اللغة العربية وانتشارها بدخول الإسلام تلك المنطقة على أيدي فقهاء تجار العرب

لقد حمل هؤلاء التجار لواء الإسلام على عاتقهم لتعليم المجتمع السوداني معالم الدّين الإسلامي ومبادئه، وتعريفهم الآداب الإسلامية وقواعد الدّين، وتعليم اللغة العربية بوصفها الأداة الضرورية لمعرفة كلّ ذلك، وتنظيمهم على أُسسٍ جديدة من شأنها ترسيخ العقيدة الصحيحة في مجتمع السودان الغربي.

وكانت الممالك الإسلامية التي قامت في السودان الغربي منفتحةً على العالم الإسلامي، ووصل هذا الانفتاح أوْجَه في عصر مملكة سُنغاي الإسلامية، وبخاصّة في عهد ملوك أسرة الأساكي، الذين فتحوا الباب على مصراعيه في وجه العالم الخارجي، الأمر الذي ساعد كثيراً على الانفتاح على الثقافة العربية الإسلامية، والاحتكاك بها بشكلٍ كبير، فذاعت شهرة المنطقة، فشدّ إليها العلماء والفقهاء رحالهم، وقصدوها من كلّ حدبٍ وصوب، وبخاصّة المراكز الثقافية كـ: تمبكتو، وجني، وكانم.. وغيرها، التي عُدّت مأوى العلماء(2)، فتلقتهم على الرّحب والسّعة، على اختلاف مواطنهم، وعملوا بانسجامٍ مع العلماء المحلّيين على تنشيط الحركة العلمية؛ التي صهرت بوتقتها أخيراً جميع الطاقات.


*العناصر الثقافية التي أسهمت في تنــشيط الحركة العلمية بالمنطقة:


أهمّ هذه العناصر الثقافية التي أسهمت في تنــشيط الحركة العلمية بالمنطقة؛ ما يأتي:


1- العنصر المحلّي (الإفريقي):


العنصر المحلّي السوداني يمثّل العنصر الأساسي المتين للحركة العلمية في السودان الغربي، وقد يكون أغلبه تكوّن تكويناً محليّاً، وبخاصّة في تمبكتو وجني وكانم وغيرها، مع ملاحظة أنّ بعضهم رحل إلى الشمال الإفريقي والمشرق العربي، وتتلمذوا على أيدي علمائها الأجلاء، ثم رجعوا إلى أرض الوطن حاملين راية العلم وشعلته، كما يعود النحل مُحمّلاً بالعسل الشهي، فتوسّعوا في نشره بين أبناء جلدتهم بحماسةٍ قوية ومتوقدة، وفي إشارة إلى تأكيد ذلك يقول الدكتور محمد الغربي: «ظهر مؤرخون سودانيون ندين لهم بكلّ الفضل في أغلب ما نعرفه اليوم عن تاريخ السودان، من أمثال أصحاب تاريخ السودان، وتاريخ الفتاش، وتذكرة النسيان. وبرز كُتّاب التراجم، وعلى رأسهم: أحمد بابا، ومؤلفون في الأصول والتفسير، والمسائل [الفقهية] وعلوم اللغة، وأدباء وشعراء.. أعطوا للحركة العلمية دفعاً جديداًوبذلك غدَا هذا العنصر من الدعائم القوية والثابتة التي ارتكزت عليها الحركة العلمية في السودان الغربي.


2- العنصر المغاربي من الشمال الإفريقي:


يمثّل أعلام العرب من الشمال الإفريقي العنصر الغالب من جملة الوافدين في الحركة العلمية بمنطقة السودان الغربي وذلك نظراً لقربها من الشمال الإفريقي، وللصلات التاريخية القديمة بين الشمال ومدن غربي إفريقيا، الأمر الذي عزّز من عمق تلك الروابط ومتانتها، ومنحها دفعاً جديداً وقويّاً، مثلما أتاح لها فرصاً فسيحة للانطلاق والتحليق نحو أبعادٍ شاسعة وآفاقٍ رحبة.

ومنذ هذا التاريخ؛ فإنّ علماء الشمال الإفريقي كانوا يقصدون مدن إفريقيا جنوب الصحراء للإقامة بها، بصورةٍ دائمة أو مؤقتة، وبذلك شكّل هذا العنصر أحد أهمّ عناصر الحركة العلمية في السودان الغربي، وما تزال السلالة المنحدرة من الشمال الإفريقي مقيمة فيها إلى يومنا هذا، كآل: الكونتا والأعراف الأمر الذي كان له دورٌ كبيرٌ في تنشيط الحركة العلمية من خلال تواصلٍ ثقافيٍّ حيّ بين الطرفَيْن، مما جسّد قدراً من ظواهر التفاعل الإيجابي بين سكان المنطقتَين.


3- العنصر الأندلسي:


الواقع هو أنّ هذا العنصر بدأ يهاجر إلى مناطق السودان الغربي في أزمانٍ متباعدة، يتعذّر ضبطها تاريخيّاً، كـ: أبي إسحاق الساحلي الأندلسي الذي بنى مسجد الجامع الكبير في تمبكتوحيث قدم إلى تمبكتو مع مَنْسَا موسى بعد حجّته المشهورة سنة 1325م، كما عملت مجموعةٌ أخرى من الظروف على دفعهم للتوافد إليها؛ أهمّها تلك النكبة التي أدّت إلى سقوط الأندلس على أيدي الفرنجة، فقد قدم عددٌ منهم إلى المنطقة، وسكن بعضٌ منهم فيها نهائيّاً، ونظراً لما كان يحظى به هؤلاء العلماء من الاحترام والتقدير، وحرارة الاستقبال، وحفاوة الاستضافة، فضّلوا البقاء والإخلاص في التدريس ونقل المعرفة، فأحاط بهم الطلاب من كلّ جانب، بحفاوةٍ كبيرة وعناية شديدة، واستفادوا منهم أيّما استفادة.


4- العنصر الوافد من المشرق الإسلامي:


قام هذا العنصر بدورٍ عظيم في تنشيط الحركة العلمية في السودان الغربي، انطلاقاً من الصلات الثقافية والتجارية بين المشرق ومنطقة السودان الغربي، منذ عصر المماليك في مصر، مما جعل علماءه يتوافدون إلى المنطقة طواعية، أو بطلبٍ من السلاطين؛ الذين لم يتردّدوا في الاعتماد على العلماء في الحكم، وتنصيبهم في مناصب إدارية مرموقة، الأمر الذي جعل المنطقة تحظى بعناية المشارقة، كما أنّ عدداً من طلبة السودان وعلمائها رحلوا إلى المشرق للدراسة، مما أسهم في تبادل العلماء بين الطرفَيْن.

كما كان لرحلة منسى موسى إلى الأراضي المقدّسة، ومروره بـمصر، أكبر الأثر في جذب انتباه العديد من النُّخبة المثقفة بالمشرق إلى الإقبال على الرحلة إلى القارة الإفريقية، حيث تبع حجّة منسى موسى رحيل علماء من مصر والحجاز إلى المنطقة كـ: عبدالرحمن التميمي من الحجاز، ومن الجهة الأخرى: رحيل علماء أفارقة إلى مصرمن أمثال: أحمد بن عمر أقيت، ومحمد محمود بغيغ، وغيرهما

فأسهمت رحلات العلماء، بين المشرق والغرب السوداني، في تنشيط الحركة العلمية وتطويرها وازدهارها في واقع المشهد الثقافي الإفريقي.

فإذا كان ما تقدّم نماذج عن أهمّ العناصر التي قامت بدورٍ بارز في تنشيط الحركة العلمية في السودان الغربي وتثبيتها، فماذا عن المجالات التي ازدهرت فيها تلك الحركة؟

*المجالات التي ازدهرت فيها الحركة العلمية:

منطقة السودان الغربي معروفة بارتباطها بالإسلام منذ صَدْر الإسلام، وتُعدّ مراكزها أهمّ المراكز الثقافية الإسلامية التي أسهمت في استقرار الحركة العلمية والثقافة الإسلامية في غربي القارة الإفريقية، كما كان لأهل هذه المنطقة دَوْرٌ كبير في الإقبال عليها بشغفٍ عظيم، والعمل على تطويرها ونشرها، وبلغت الحركة العلمية مرحلتها الذهبية في القرن العاشر الهجري (15 و16 الميلادي

في ميادين عدّة، حيث إنّ المؤلفين الأفارقة ألّفوا كثيراً من الكتب في معظم الفنون، ولهم تقييدات ومختصرات كثيرة، وشروح وتعليقات مفيدة، كما جمعوا غالباً بين المسائل الفقهية والأصولية في كتابٍ واحد، يقول الدكتور علي القاسمي: «إنّ علماء السودان الغربي أثرَوا اللغة العربية، بما ألَّفوه من أبحاثٍ ودراساتٍ قيّمة في شتّى مجالات المعرفة.

وأهمّ تلك الجوانب التي أثْرَاها علماء السودان الغربي بالتأليف، وازدهرت فيها الحركة العلمية باللغة العربية، تتضح في الآتي:


أ- علوم الشريعة:


تُعدّ العلوم الشرعية من أهمّ المجالات التي ازدهرت فيها الحركة العلمية في السودان الغربي، وذلك لِمَا يُكنّه الأفارقة من تقديرٍ وافرٍ للإسلام وعلومه المتنوعة، حيث إنّ ذلك الاهتمام الكبير بفنون العلم المختلفة، التي تضلّعوا فيها جاء من منطلقٍ دينيٍّ بحت، فالإسلام- بطبيعة الحال- هو العامل المحرّك الذي دفعهم إلى القيام بذلك الدَّور الرياديّ في تنشيط الحركة العلمية؛ لذا من الطبيعي أن يكون للعلوم المتصلة بالشريعة الإسلامية نصيبُ الأسد في تلك الحركة، ذلك أنّ الإسلام الذي انساب من المنابت العربية قد توغّل بثقافته المتدفقة في أعماق حياة المجتمع الإفريقي، كغيره من المجتمعات المسلمة، وامتزجت تعاليمه بوجدان أهله ومشاعرهم، ومن ثمَّ أدرك الإنسان الإفريقي لحياته قيمةً حضاريةً غير معهودة، فاندفع بذلك يتلمس السبيل إلى تعميق صلته بتلك العلوم الدينية التي فجّرت في أعماقه وحياته عوامل الإبداع والتألّق.

ومَن تتبع تراجم علماء المنطقة، مثل الذين تحدّث عنهم أحمد بابا التمبكتي في (نيل الابتهاج بتطريز الديباج)، والسعدي في كتابه (تاريخ السودان)، وغيرهما من علماء التراجم، يُدرك تمام الإدراك أنهم علماء متضلّعون في الفقه، وبخاصّة الفقه المالكي، والعقيدة والحديث وعلومه، والتصوف وغيرها من العلوم الشرعية، حتى إنّ درجتهم العلمية في هذا المجال قد تقدّمت إلى مراحل متطورة في النشاط العلمي والميدان المعرفي، فلم يقتصر ذلك النتاج العلمي كلّه على التركيز في شرح كتاب، أو حاشية لمصنف مقلّدين أعمال علماء آخرين، دون الخوض في دراسة صميم الموضوعات، كما روّج بعض الباحثين الغربيّين أمثال المستشرق ألفونس غيي الذي أشار إلى ذلك قائلاً: «كانت أعمالهم تدور في صورة مخطوطات، وكانت أعمالهم هذه تمثّل بعض الدراسات النحوية والفلسفية [التفسير]، ووضع شروح لبعض الكتب الدينية، وإعداد الخطب، ومناقشة بعض المسائل الفقهية

ويكفي للردّ على هذا وأمثاله: ما تذخر به مكتبات المنطقة من الثقافة المكتوبة التي عرفها السودان الغربي منذ قرون طويلة، فآتت ثمراتها يانعة، في الوقت الذي كان فيه الأوروبيون يشنّ بعضهم الحرب على بعض، وهذا ما ذهب إليه المنصف للأعمال العلمية لعلماء الأفارقة: عبد الفتاح مقلد الغنيمي، حين قال: «وقد ظهرت حركة العلم واسعةً وقويةً في السودان الغربي، في وقتٍ لم يكن العالم قد بدأ يسمع عن أوكسفورد وكامبريدج وباريس، وغيرها من جامعات أوروبا، وظهرت حضارةٌ إسلامية متطورة ونامية، آخذةً بأسباب الرقي والتحضّر؛ في وقتٍ كانت أوروبا تخوض حروباً فيما بينه


ومما يؤسف له أنّ هذه الجهود لا يزال أغلبها مخطوطاً، عرضةً للتلف وعاديات الزمن، ولو اهتمت الدول والمنظمات العلمية، ذات القدرات الاقتصادية والإمكانيات المادية، بهذه المخطوطات لأفادت العالم أجمع بتلك الكنوز، التي لا تزال مغمورةً لم تر النور بعد!


ب- علوم اللغة:


تُعدْ العلوم اللغوية، وبخاصّة النحو والصرف والعروض منها، أهمّ المجالات العلمية التي حظيت بازدهارٍ فائقٍ في السودان الغربي، فقد أورد أحمد بابا، والسعدي، ومولاي أحمد بابير، وأحمد بلعراف التكني، مجموعةً كبيرة من علماء اللغة، من خلال تراجمهم، ووصفوهم بعُلو الكعب، وبلوغ القمّة في علوم اللغة وأسرار البيان.

وربما يرجع هذا الاهتمام البالغ بالعلوم اللغوية إلى اعتبارها الأداة الأساسية في فَهْم العلوم الشرعية ومقاصدها، لذا انكبّوا على دراستها بحماسة شديدة؛ لمعرفتها تمام المعرفة، فأثرَوها بمؤلفاتٍ قيّمة، غايةً في السهولة والمرونة، وإن كانت آثار التقليد في بعض الأحيان باديةً عليها

ولا عجب في هذا الاهتمام الكبير بالعلوم اللغوية؛ لأنها- كما بيّنا سالفاً- المفتاح الأساسي للوقوف على فَهْم مصادر الشريعة، ومعرفة مقاصدها، والغوص في عمقها، واكتشاف دُررها، وفي تأكيد هذا يقول ابن فارس: «العلم بلُغة العرب واجبٌ على كلّ متعلّق من العلم بالقرآن والسنّة والفُتيا… وذلك أنّ القرآن نازل بلغة العرب، ورسول الله عربي، فمن أراد معرفة ما في كتاب الله- عز وجل- وما في سنّة رسول الله ؛ من كلّ كلمة غريبة، أو نَظْمٍ عجيب، لم يجد من العلم باللغة بـُدّاً


ج- الأدب:


تعدّ الدراسات الأدبية إحدى أهمّ الوسائل التي تساعد على فَهْم العلوم الدينية، وأسرار العربية، ولمّا كان الأمر كذلك؛ فإنّ علماء السودان الغربي اعتنوا بها اعتناءً كبيراً، وبخاصّة المنظوم والمنثور منها، وخصوصاً عندما بدأت شخصيات أدبية كبيرة في التوافد عليها من المشرق الإسلامي وشمال إفريقيا، ممن اختاروا السكن في السودان الغربي، أمثال: عبد الرحمن التميمي، سيدي يحيى التادلسي، فياض الغدامسي، إسحاق التواتي، ومنصور الفزاني، وسالم بن عبيدة المصراتي وغيرهم من الشخصيات الأدبية، الأمر الذي يؤكد أنّ السودان الغربي قد شهدت نشاطا أدبيّاً، واكب مسيرتها العلمية، وكان لصولته فيها صدًى قويٌّ أفضى إلى تطوّره في العصور اللاحقة، لدرجةٍ أصبح الكثير من العلماء والطلبة يحفظون دواوين الشعراء، ويستشهدون بأشعار وكتابات شعراء العرب، فحاولوا بهذا أن يقلدوا الأدباء القدامى في نَظْم الشعر وكتابة النثر، فتركوا جملة من القصائد الأدبية.

وقد ذهب أحد الباحثين إلى أنّ النشاط الأدبي في السودان الغربي «بلغ نموّاً كبيراً، وإشراقاً لامعاً، نبغ فيه رجالٌ لا ينازع في مقدرتهم أحد… متناولين مختلف المعاني البيانية والمحسنات البديعية وغيرها وذلك بالرغم من أنّ معظم مَن نَظَم تلك القصائد فقهاء؛ عُرفوا في مجال الفقه أكثر من ميدان الأدب.


د- التاريخ:


لمّا كان علم التّاريخ أهمّ العلوم التي يعرف الخلف بها أخبار أسلافهم وأجدادهم؛ فإنه قد حظي بإقبالٍ منقطع النظير من طرف النُّخبة الإفريقية المثقفة، مما أدّى إلى إثرائه بمؤلفاتٍ خاصّة في تغطية أحداث المنطقة بشكلٍ عام، الشيء الذي كان له دورٌ كبير في تفعيل ظاهرة نشاط الحركة العلمية العربية وازدهارها؛ من خلال جهود هؤلاء العلماء في هذا المجال. وقد عُدّت المصنفات في هذا الميدان من أهمّ المصادر المعتمدة والأساسية- التي لا غنى عنها لأي باحثٍ- في معرفة تاريخ بلاد السودان الغربي كلّه، ومن أهمّ تلك المصنفات:

– تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر النّاس، لمحمود كعت التنبكي.

– تاريخ السودان، للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السعدي التمبكتي…

وغيرهما.

وهكذا يتبيّن لنا ازدهار الحركة العلمية في السودان الغربي في هذا المجال، إذ لولا ذلك النضج العلمي في تناول التّاريخ الإفريقي؛ لأصبح جزءٌ كبير من تاريخ الإنسانية مغموراً، وفي تأكيد ذلك يقول محمد الغربي: «وقد ظهر مؤرخون سودانيون ندين لهم بكلّ الفضل، في أغلب ما نعرفه اليوم عن تاريخ السودان، من أمثال: تاريخ السودان، تاريخ الفتاش، وتذكرة النسيان


ه- التراجم:


حظيت التراجم هي الأخرى باهتمام الفقهاء والعلماء، نظراً لعنايتهم الكبيرة بتسجيل تاريخ العلماء والفقهاء والقضاة والملوك والرؤساء والتعريف بهم، وقد برع علماء السودان الغربي وغيره في هذا المجال، وابتكروا فيه أيّما ابتكار، وبخاصّة تراجم العلماء، فأنتجوا فيه إنتاجاً رائعاً رائقاً؛ تمثَّل في مصنفاتٍ نفيسة، عُدّت من أهمّ المصادر الأساسية في معرفة علماء السودان وتاريخهم.

ومن أنفس ما كُتب في هذا المجال:

– نيل الابتهاج بتطريز الديباج، لأحمد بابا التمبكتي، وهو ذيلٌ على كتاب:

– الديباج في معرفة أعيان علماء المذهب، لابن فرحون المدني.

– ومنح الربّ الغفور فيما أهمل صاحب فتح الشكور، لأبي بكر بن أحمد المصطفي الولاتي.

– وإزالة الريب والشك والتفريط في ذكر المؤلفين من أهل التكرور والصحراء، لأحمد بلعراف التكني.

– والسعادة الأبدية في التعريف بعلماء تمبكتو البهية، لمولاي أحمد بابير.

ومما لا يدع مجالاً للشك: أنّ هناك مجالات أخرى غير ما ذكرنا، ازدهرت فيها الحركة العلمية في السودان الغربي كـ: علم الطب، وعلم الفلك مثلاًخاصّةً إذا أدركنا مدى اهتمام المجتمع الإفريقي بهما لحاجته الملحة إليهما في شؤون العلاج، وظروف السفر، وغيرهما كثير.

أسلوب الكتابة:

  تميّز أسلوب الكتابة في السودان الغربي- في جانبٍ منها- بالتعبير عن المراد بألفاظٍ واضحة، بعيدةٍ عن اللّبس والغموض، لغرض توصيل الفكرة وتوضيحها بدقّة، دون مراعاة البناء الهيكلي المؤثّر الجذّاب، الأمر الذي جعل معظم الكتاب لا يتحرّجون في اسـتعمال بعض الكـلمات المحلية (الدارجة)؛ ليفهمها المتلقّي، أو جملٍ ملتوية

 غير أنّ معظم المؤلفين وصل إلى درجة التناسق والتآلف في أداء المعاني التي يتطلبها الموقف الذي سيق الأسلوب للتعبير عنه، ويمكن أن نلمس ذلك بوضوحٍ في معظم مؤلفات علماء الأفارقة كـ: (تاريخ السودان) للسعدي، و(مرآة التعريف بفضل العلم الشريف) لأحمد بابا التمبكتي، و(الأجوبة المهمة في المسائل الملمة) لسيدي المختار الكنتي، و(وقاية المتكلم من الخطأ المثلِّم) لمحمد بن باد الوافي، وغيرها من الكتب والمخطوطات التي يمكن أن نلمس فيها ذلك الأسلوب العربي البديع بشكلٍ عام.

وهذا نموذج من ذلك، يبيّن فيه صاحبه دوافع ترجمته لعلماء المنطقة وأعيانها، فيقول:

«… ولمّا رأيت انقراض ذلك العلم ودروسه، وذهاب ديناره وفلوسه، وأنه كبير الفوائد، كثير الفرائد، لما فيه معرفة المرء أخبار وطنه، وأسلافه، وطبقاتهم وتواريخهم ووفياتهم، فاستعنت بالله- سبحانه- في كَتْبِ ما رأيت من ذكر ملوك السودان أهل سنغي، وقصصهم وأخبارهم وسيرهم وغزواتهم، وذكر تمبكتو ونشأتها، ومَن ملكها من الملوك، وذكر بعض العلماء والصالحين الذين توطّنوا فيها، وغير ذلك إلى آخر الدولة الأحمدية العباسية، سلطان مدينة الحمراء مراكش

 فمما لا شك فيه؛ أنّ هذا النموذج يجسّد حقيقة مدى روعة الأسلوب السوداني في الكتابة، خاصّةً إذا أخذنا في الاعتبار أنّ صاحبه ليس بعربي، وإنما هو إفريقي تمبكتي، اجتهد في دراسة اللغة العربية حتى تمكّن منها.

وقد بلغ فنُّ الكتابة في السودان الغربي أَوْجَه مع العلّامة أحمد بابا، الذي امتاز أسلوبه بالمتانة والجزالة والموضوعية العلمية، وغزارة ثروته اللغوية، يقول في مقدّمة كتابه (نيل الابتهاج)، الذي أشرف على تحقيقه ونشره الباحث الليبي الدكتور عبد الحميد الهرامة- في إشارة إلى الدوافع التي حدت به إلى التأليف في هذا الموضوع حالة إقامته منفيّاً في مراكش بالمغرب-: «فما زالت نفسي تحدّثني من قديم الزمان، وفي كثيرٍ من ساعات الأوان، باستدراكي عليه [ابن فرحون المدني، في كتابه: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب] ببعض ما فاته، أو جاء بعده من أئمة الأعيان، فقيّدتُ فيه بحسب الإمكان، حين كنتُ ببلد بعيدة عن نيل المقصد من ذلك، لبُعدها عن مدن العلم، وكُتب هذا الشأن، فقصر بي الحال مع عدم مساعدة الزمان، لما بُلينا به من حوادث الوقت، وفتنة تشغل عن كلّ فرض، وترمي بشرر كالقصر في الطول والعرض

وبذا يتجلّى لنا مدى جزالة الأسلوب الإفريقي التمبكتي، وقدرة علماء السودان الغربي على صياغة الأفكار في قالبٍ فنيٍّ جميل.

هذا، ولقد بارك الدكتور محمد الغربي منهج أحمد بابا وأسلوبه في جزالته ورقيّه العلمي قائلاً: وأهمّ ما امتازت به أعمال أحمد بابا في هذا المجال: عمق النظر، وغزارة المادّة، مع تجنّب الإسفاف أو الاستطراد، وقدرة كبيرة على الترتيب

ويُدلي علي عبد الله الخاتم بتقييمه لجملة الأساليب السودانية قائلاً: «… وكان لبعضهم أساليب مميزة، أعطت مؤلفات قيِّمة ومشهورة، وبين أيدينا أربعون مخطوطة من مؤلفات أحمد بابا إمام تمبكتو»

وهذا مع الاعتراف بأنّ بعضها- أحياناً- يعاني من الرّكاكة في إيصال الفكرة بالشكل الذي نراه في بعض النصوص المقتبسة من بعض المصادر المهمّة كتاريخ الفتاش مثلاً.

وهكذا يتبيّن لنا، من خلال هذا العرض المتواضع، أنّ الحركة العلمية في السودان الغربي ازدهرت في معظم العلوم الشرعية واللغوية، وبخاصّة النحو والصرف، والآداب، ومجال التاريخ، والتراجم، وأسلوب الكتابة، وذلك نتيجة الاهتمام البالغ بها، كما بيّنا أنها في أغلب الأحيان قد تحرّرت من ربقة التقليد، حيث ألّف العلماء الأجلاء مصنفاتٍ مهمّة، عُدّت من المصادر المهمّة التي لا غنى عنها لأي باحثٍ يدرس اللغة العربية في غرب القارة الإفريقية.



المصادر :.

(1)بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، ص521،، ط1، مؤسسة الفليج الصفاء الكويت.

(2)الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، حسن أحمد محمود، ص225، دار النهضة العربية، القاهرة 1963م.

(3)الثقافة العربية الإسلامية وانتشارها في غربي إفريقيا، نعيم قداد، مجلة المعرفة، العدد 11، ص49، السنة الثانية.

(4)العلاقة بين اللغة العربية وشقيقاتها اللغات الإفريقية، ص54، ط1، المكتبة العصرية، صيدا بيروت 1987م.