Type Here to Get Search Results !

في قلب الزقاق العثماني العتيق: تتحدث الجدران عن أجمل الذكريات



 بلقيس خيري شاكر البرزنجي محافظة السليمانية أقليم كوردستان العراق

في زقاق عتيق، حيث تتشابك أشعة الشمس مع الحجارة المرصوفة بالحصى، ويفوح عبق التاريخ، يتربع جامع عثماني مهيب أمام بيت جدي مباشرة. شُيّد هذا الجامع في عهد الدولة العثمانية في عام 978 هـ/1570م تقريبًا، وبقي الجامع محافظًا على صفته التراثية الأثرية. هنا، في قلب هذا الزقاق، أجد نفسي محاطًا بذكريات دافئة. بالقرب من بيت جدي، تتجاور مقهى تعج بثرثرة الأحبة، وساحة الشارع تزدحم بحركة العابرين، يتردد فيها صدى ضحكات الأطفال.

لا أزال أتذكر لقاءات العائلة الدافئة في بيت جدي الكبير، حيث كان يجتمع جميع أخوالي، إخوة أمي، في بيت الأب الكبير. أتذكر عندما كنت أنزل من السيارة برفقة أمي وإخوتي، لتبدأ رحلة من السعادة. كنا نتوقف عند دكان خالي هشام لشراء المثلجات، مثلجات الفراولة المفضلة لدي، والتي كانت تتساقط منها قطرات حمراء على يدي. ثم أقف أمام بيت جدي، بابه الضيق باللون الرصاصي، وتصميمه العثماني العتيق الأصيل. يعتلي الباب ثلاث درجات أصعدها حتى أطرق الباب، ويقع خلف الباب ستارة قديمة من صنع جدتي باللون الرمل الصحراوي تتوسطها زهور حمراء، حيث التصاميم القديمة للأقمشة الستارية تخفي وراءها عالمًا من الحنين.

في قلب الدار، يتألق فناء واسع، تحيط به الغرف كحراس أمناء. على اليسار، يتربع المطبخ، حيث يزهو طباخ أبيض الطراز، قطعة أثرية من زمن جدتي. كانت جدتي تطهو عليه أشهى الأطباق الشعبية الراقية، تلك الأكلات التي تحمل نكهة الماضي العريق. في المقدمة، ترحب غرفة الضيوف بضيوفها، بينما تتوزع غرفتان على الجانبين، كل واحدة منها تحمل أسرارها. وفي زاوية الفناء، يقع تنور الطين، حيث تشعل النار فيه كل صباح، لتخبز جدتي الخبز الحار الطازج، الذي يملأ المكان برائحته الزكية.

في غرفة الضيوف، تقف ماكينة الخياطة البيضاء شامخة، تشهد على براعة جدتي كخياطة ماهرة في مدينة منصورية الجبل. وإلى جانبها، يقف تلفاز عتيق، يذكرني بأيام الزمن الجميل. كل شيء في هذا المنزل ينضح بعبق الماضي التراثي البسيط، من لوحة الطاووس المطرزة المعلقة على جدار غرفة الضيوف، إلى الساعة الخشبية التي تدق في غرفة جدتي، معلنة مرور الساعات.

قبل دخول غرفة الضيوف، يتردد صدى صوت جدي محمد، الملقب بـ "غريب"، وهو ينادي أمي باللغة التركمانية: ("خوش کەلدوز")، مرحبًا بالجميع. تتصاعد روائح طعام جدتي الشهي، حيث التشريب باللحم والأرز والسلطة، تداعب الأنف وتوقظ الشهية. لا يزال مشهد خالي وسام، بثيابه الخاصة وذهابه إلى البستان، عالقًا في ذاكرتي، كصورة ثابتة في فيلم قديم. نتوسل بالوالدة كي يصطحبنا خالي إلى البستان معه، حيث اللعب والركض وجمع العنب، ثم العودة عند الغروب إلى منزل جدي، محملين بمتعة اليوم وذكرياته.

أتذكر عندما كان يصطحبني خالي شمس الدين معه إلى دكانه الخاص بصنع المثلجات، حيث كانت رائحة السكر والفواكه تملأ المكان. كنت أرى كيف يخلط خالي السكر مع الألوان والأصباغ بمهارة، كي يصنع أطيب المثلجات. كان خالي يبتسم وهو يخلط المكونات، وكانت عيناه تلمعان بالفرح. كنت أشعر بالسعادة عندما أرى المثلجات تتشكل أمامي بألوانها الزاهية وروائحها الجميلة. لازال هذا المشهد محفورًا في ذاكرتي، وعندما أتذكره أشعر وكأنه أمامي، وأني لازلت مع خالي في دكانه.و أستطيع أن أشم رائحة المثلجات وأسمع صوت خالي وهو يبتسم ويقول لي: "هذه المثلجات صنعت خصيصًا لك".

أتذكر عندما وقفنا أنا وأولاد خالي أمام خالي عامر، وكان وجهه يضيء بابتسامة وهو يرحب بنا. بدأنا نغني له أغنية (عامر ابدا موشاطر) بأصواتنا المرتفعة والمضحكة، وكان خالي يصورنا في جهازه بابتسامة كانت لحظة ممتعة ومضحكة. كانت عينا خالي عامر تلمعان بالفرح وهو يصورنا كانت ذكريات ومواقف لطيفة تجعلني أبتسم حينما أتذكرها، وتجعلني أشعر بالدفء والحب أتجاه الأيام التي مضت.

ومع استعادة تلك الذكريات، أجد نفسي أتذكر تلك اللحظات السعيدة التي قضيناها معًا. في قلب الذكريات، تتربع صورة حية، مشهد يفوح منه عبق الماضي ودفء العائلة. تتراءى لي مائدة عامرة، أعدتها ببراعة يد أمي وجدتي وخالاتي. لم يكن جمالها يكمن في تنوع الأطباق فحسب، بل في الحب والروح الطيبة التي سادت أثناء تحضيرها. كانت المائدة جميلة بحضور جميع خوالي وأنجماعهم حول المائدة وتبادل الأحاديث الجميلة في جو من الألفة والمودة. كانت أيام تجتمع فيها العائلة بأكملها.

تفرقت الأيام بشمل العائلة، وتوزع الأحبة في مدن مختلفة. لكن تبقى تلك اللحظات السعيدة منارة تضيء دروبنا، ومصدر إلهام يدفعنا نحو مستقبل مشرق. في كل عيد، نتجه إلى بيت جدي في منصورية الجبل، حيث الماء والخضرة والوجه الحسن. تقع المدينة بين نهرين (نهر الخالص ونهر ديالى)، مما جعلها منطقة سياحية جميلة، خاصة في الأعياد.

في ضواحي المدينة، حيث تملأ ضحكات الأطفال الشوارع، وهم يتحدثون بلغتي التركمانية والعربية، أستشعر عبق التاريخ، وتقاليد ضاربة في القدم، تمتد جذورها إلى العهد العثماني. تتميز شوارع منصورية الجبل بأزقتها الضيقة، حيث البيوت تفصلها شوارع ضيقة، لا يتعدى عرضها بضع خطوات... بيت يقابل بيت، هكذا تصاميم البيوت في هذه المدينة على الطراز العثماني القديم. جميع البيبان ضيقة، والبيوت يعتليها سقف وحائط، لا يمكن أن يرى المرء ما بداخل المنزل.

تهب عليَّ نسمة حنين تذكرني بزيارة الخالات، حيث تتجدد لحظات الفرح والترحيب الحار. لا أزال أذكر حديث والدتي عندما قالت إن هذه المدينة العتيقة وجامعها الأثري تأسسا على يد الشيخ عبد اللطيف والشيخ محمود، أحد شيوخ عائلة الأفنديلار العثمانية. تبقى هذه الذكريات محفورة دومًا في قلبي، تتراقص وتعطيني السعادة بين الحين والآخر. فهي أجمل ما عشته في الطفولة. كان ذلك الوقت جميلًا وممتعًا، وأتمنى لو أستطيع العودة إلى تلك الأيام مرة أخرى. فهي كنز يعيدني إلى أيام البساطة، وصلة الرحم، وجمال العائلة، وأصالة التقاليد التي تزخر بها مدينة أمي، ألا وهي "منصورية الجبل" في محافظة ديالى.