بقلم: بلقيس خيري شاكر البرزنجي
أمسك بماكينة الحلاقة، وأنا أقف أمام المرآة، والضوء الخافت يلقي بظلال على وجهي مثل لوحة فنية. أشعر بيدي ترتجف قليلاً بينما أبدأ بحلق لحيتي الشقراء، والشعيرات تتساقط على حوض الغسالة الأبيض مثل رقاقات الثلج. مع كل شعرة تسقط، أشعر بجزء من همومي يتلاشى معها، وكأن روحي تتنفس شيئًا فشيئًا.
أغمض عيني، ثم أفتحهما فجأة، لأجد المرآة تعكس لي صورة مشوهة لوجهي، والعيون محاطة بهالات سوداء مثل ليلة بلا نجوم. صوت خفي يهمس في أذني: "ضع يديك في منتصف المرآة وتعال هنا، ستجد ما تبحث عنه". أنظر إلى شعيرات لحيتي، وأراها كالديدان تسير على الصنبور، والمياه تجري تحتها مثل جدول صغير.
أسمع نداء زوجتي وهي تطلب مني شراء الخضروات، وصوتها يأتي من بعيد مثل نغمة موسيقية. أجيبها بصوت متقطع: "نعم، أنا هنا"، لكنني أعلم أنني لست هنا، بل أنا عالق في دوامة من الأفكار والمشاعر مثل سفينة في بحر هائج.
أمد يدي إلى منتصف المرآة، وكأنني أمدها إلى عالم آخر، والزجاج يبدو وكأنه بوابة إلى عوالم غير مرئية. أشعر بيدي تخترق الزجاج، وأجد نفسي أغوص في دوامة من الألوان والصور مثل غواص يغوص في أعماق البحر.
أسمع صوتًا قويًا كأمواج البحر المرتطمة، وأجد نفسي مرميًا بقوة على الأرض، والأصوات تتردد في أذني مثل صدى قوي. أشاهد زوجتي تنتمي إلى عالم آخر، وهي طفلة تلهو وتلعب بالطين، والشمس تشرق على وجهها مثل ضحكة صباحية. تركض مع الأطفال الصغار في ذلك الحي العتيق الذي يقع فيه منزل أبيها، والأزقة الضيقة تملأها أصوات الضحك واللعب.
أناديها باسمها: "سلوى... سلوى"، فتلتفت إلي وتبتسم، ثم تهرب مسرعة مع الأطفال، وضحكاتهم تملأ الهواء مثل موسيقى خفيفة. لا تعرفني في هذا التوقيت الزمني الخاطئ، وأشعر أنني غريب عن هذا العالم.
أسير في الطريق، وأرى جدي الراحل الذي مر على رحيله عقدين، لازال يمتلك نفس القوة والبنيان، ووجهه يبتسم لي مثل شمس مشرقة. وهو يبتسم ويقول: "أوصيك أن تحفظ جيدًا ما علمتك يا حفيدي". أشعر بالدهشة والخوف، فأنا لا أفهم ما يحدث، والعالم من حولي يبدو وكأنه يدور بسرعة.
أجد نفسي أمام بحيرة هائجة تخرج منها أسماك صغيرة بألوان فضية وزرقاء وقرمزية، مثل لوحة فنية مرسومة بعناية. الأسماك الصغيرة تأكل الأسماك الكبيرة السوداء !هكذا كل شيء يبدو غير عقلاني، مثل حلم مزعج.
أشعر أنني فقدت عقلي تمامًا وأنا أتأرجح بين الواقع والخيال مثل شخصية في حلم. أسير تائهًا في دهاليز الوقت، أشاهد الثلج يتساقط على شجرة البرتقال المثمرة، وياللعجب، لون ندفات الثلج بيضاء وذهبية وكأن فصل الشتاء ارتدى الأساور والحلي.
وفي الجهة الأخرى من الشارع يتساقط أوراق البلوط الصفراء وكأنه موسم الخريف المكتئب والأوراق تتساقط مثل رقاقات الثلج. أجلس على ركبتي، أنظر إلى السماء، وأشاهد الغيوم الحمراء مع أشعة الشمس، مثل لوحة غروب جميلة،أرفع يدي إلى الأعلى أحاول أن أحلق مع سرب الطيور المهاجرة لكن طائرًا أحمر اللون من السرب يهبط من السماء ويقصدني يحط عندي عيونه تحمل لغزا لي، يبدأ يتحدث معي ويقول: "انصحك أن تهرب من هذا التوقيت الزمني الخاطئ" أنت في دوامة التيه". أشعر بالفزع..هل هذا الطائر تحدث معي؟وأحدق بمن حولي والناس يعبرون مثل أشباح، وكأن لا أحد يراني.
عاصفة ترابية تضرب المكان وتتبعها أصوات الرعد والبرق الغاضبة تضيء الأبنية والاكثر غرابة أن جميع الأبنية مبنية من الطين وليس من الطابوق!الرياح تهدر مثل أسد غاضب. أنقلاب للجو غير عقلاني بدأ المطر ينزل على الأشجار والأطفال يبلل كل شيء لكنه لا يبللني وكأنني محمي بغلاف غير مرئي.
أحاول أن أجمع الماء في كفي لكنه يتحول إلى طين، وأشعر أنني عالق في حلم مزعج. أسمع صوت العجوزة تحدق بي أنظر إليها وأجد طائر البوم على كتفها، إنها تملك نفس الصوت الذي سمعته مسبقًا، وتقول للكلب المتسول: "لماذا لا يبلل المطر هذا الرجل؟" يجيبها الكلب: "ذنوبه كثيرة". أشعر أن كل شيء معي غير عقلاني، وأنا في عالم غريب. أود أن أتخلص من هذه الدوامة السخيفة وأنجو من الزمن الذي لاأنتمي له.أقوم بفك أزرار قميصي بدأت الازرار تدمي يدي لحدتها كأطراف السكين أود أن اخرج مما أنا فيه، أسمع البوم يتحدث معي نفس البوم على كتف العجوزة يقول: "أبدأ بالجري أيها الرجل، عليك بالجري، هيا أسرع". أبدأ بالركض إلى حيث لا أعلم، وأشعر أن قدمي تتسابق مع الهواء، والعالم من حولي يبدو وكأنه يتحرك بسرعة.
أشاهد أسدًا قادمًا من أعلى الجبل، وأفكر في مصارعته لكنني أشعر بالخوف، والأسد يفتح فاه، وأسقط أرضًا وأرتجف من الخوف. أصرخ بأعلى صوتي، ويصل صداي إلى أعلى قمة الجبل، والصدى يعود إلي مثل صوت قوي.
فجأة، أجد نفسي في سريري وزوجتي بجانبي، تفتح لي أزرار قميصي، وتضع نبات الريحان عند أنفي، والرائحة العطرة تملأ أنفي. أستيقظ وأنا أرى تساوي الساعة عند المنتصف، إنها الثانية عشر ظهرًا، وزوجتي بجانبي، تبتسم لي وتقول: "أنت بخير الآن".
أنهظ دون أن أتحدث، وأفتح ستارة نافذتي، وأرى السماء الصافية والشجر المثمر، وأسمع زقزقة العصافير، والهواء النقي يملأ رئتي. أشعر براحة غريبة، وكأنني خرجت من حلم سيء.
أسمع صوت دقات الباب، فأسرع إلى الباب وأقول: "من الطارق؟" أسمع ضحكات أطفال، وصوت زوجة أخي، وصوت أخي وهو يقول: "أتريد أن تبقينا واقفين هنا؟" أبتسم وأفتح الباب، لأجد أخي واقفًا أمامي، بابتسامة واسعة على وجهه.
نحتضن بعضنا، وأشعر بدفء الأسرة، وأرى ابنة أخي تضحك وتلعب، وزوجتي تبتسم وتقدم لها الحلوى. أسمع صوت نشرة الأخبار في التلفاز، وهي تعلن عن عطلة رسمية غدًا وبعد غد. أشعر بسعادة غامرة، لأنني لن أذهب إلى العمل، ولن أرى المدير السمين الذي يبغضني.
أحد ما يدق الباب ثانية، فأسرع إلى الباب لأجد جارتي سعاد، بابتسامة على وجهها، وعطر الياسمين يفوح من ثوبها. تقدم صحن الكعك الساخن الذي أعدته لابنة أخي، وتقول: "أتمنى أن يعجبها". أبتسم وأشكرها، وأشعر بالامتنان لها.
يجلس الجميع في غرفة الجلوس، ويتبادلون الحديث، والضحكات تملأ الغرفة. ينهض أخي ويهديني علبة مستطيلة مغلفة باللون الأخضر. أفتحها بشوق، لأجد فيها كتابًا عنوانه "هل تعاني من الوسواس القهري؟ هنا تجد العلاج".
أشعر بالدهشة، وأسأل أخي كيف عرف أنني أعاني من هذه المشكلة. يبتسم أخي ويقول: "أنا أعرفك جيدًا يا أخي". أشعر بالامتنان له، وأبدأ في قراءة الكتاب.
بعد رحيل عائلة أخي، أجد نفسي أمام الكرسي في الحديقة، وأقرر أن أجلس وأقرأ الكتاب. أرى القط الأسود يسير على حائط حديقتي، وينظر إلي بعينيه الماكرة. يقول لي: "هل حقًا تريد التخلص من الظل الذي يلاحقك؟" أشعر بالحيرة، وأسأل نفسي هل أنا معتوه أم أن الحيوانات تتحدث معي حقًا؟
أحدق في السماء، وأرى حمامة بيضاء قادمة نحوي. تحط على كتفي، وتحمل رسالة بين قدميها الصغيرتين. أفتح الرسالة، لأجد كلمة واحدة مكتوبة: "ستشفى". أشعر بالراحة، وأبدأ في قراءة الكتاب، وأنا أتطلع إلى الشفاء من هذه الحالة الغريبة التي عشتها.
أقرأ الكتاب بتركيز، وأشعر أنني أفهم نفسي أكثر. أرى أنني لست وحدي في هذه التجربة، وأن هناك الكثيرين يعانون من نفس المشكلة. أشعر بالأمل، وأبدأ في تطبيق النصائح والتمارين التي جاءت في الكتاب.
مع مرور الوقت، أشعر أنني أتحسن، وأن الظل الذي كان يلاحقني بدأ يتلاشى. أشعر بالسعادة، وأنا أعيش حياتي بشكل طبيعي. أتذكر الكلمة التي جاءت في الرسالة: "ستشفى"، وأشعر أنني بدأت أفهم معناها الحقيقي.
أشعر بالامتنان للكتاب الذي قرأته، وللرسالة التي وصلتني وللظل الذي كان يلاحقني والذي دفعني للبحث عن الشفاء...
تابعنا على