Type Here to Get Search Results !

البجعة البيضاء ترقص حباً

بلقيس خيري شاكر البرزنجي 

محافظة السليمانية أقليم كوردستان العراق.

يلمع في رقبتها طوق من الفضة المتلألئة، مطعمًا بالأحجار الكريمة التي تبرق في الضوء كانت قد أهدته لها والدتها التي رحلت وتركتها في لحظة فارقة من حياتها. منذ أن كان عمرها خمس سنوات، كانت تلفت انتباه أباها وأمها دائمًا بلياقتها البدنية المذهلة، وتقوم بطوي ساقها على ظهرها بمرونة، وتقلد جميع حركات لاعبات الباليه بمهارة. جوان، بعيونها الناعسة البريئة التي تشع بالحياة، وخديها المرسوم بهما غمازتان تكونان كالنجمتين عندما تبتسم، تضيء وجهها ابتسامة ساحرة. رموشها الطويلة التي تبدو كالريش عندما تغمض عينيها، وهي تتمرن للرقص منذ صغرها، كان والدها يصطحبها عند مدربة خاصة كي تنمي موهبتها بالرقص الباليه. كانت أصابعها الناعمة تسير على الأرض مع أنغام الموسيقى الخاصة للتدريب، وتبدأ بدوران كدمية تم توقيتها بالبطارية، كانت تمتلك حركات رشيقة وخفيفة، ولياقة بدنية ممتازة جذبت بها مدربتها ووالديها. بدأت جوان تنافس في تمارين اللياقة للباليه وتتفوق على من هم كانوا يتدربون قبلها بسنوات. الجميع ينبهر بالابتسامة التي ترتسم على محياها وهي ترقص الباليه حركات كالفراشة تنتقل من زهرة إلى أخرى، تحرك يديها بخفة وتطوي قدميها بكل مرونة، ترقص وترقص بنشاط كالنحلة لا تكل ولا تمل. حازت على أكثر من ميدالية فضية وذهبية لتفوقها في سباقات الباليه.

جوان تمتلك الحس الموسيقي والقدرة على الوثب عاليًا، فهي موهوبة بفطرتها، ترقص بانتظام وحرفية، تمتلك جوان جسدًا رشيقًا يتحرك بأكبر قدر ممكن من المرونة والسرعة والسيطرة والرشاقة. ذات يوم، وهي تتمرن في قاعة المستطيلة المخصصة للتمرين، وتغمض عينيها وتدور بأصابع ناعمة على كرة كبيرة دون أن تنظر إلى المرآة المثبتة على حائط غرفة التمرين، إذا بأحدهم يناديها: "رائع يا جوان، لقد تخطيت كل حدود الإبداع". توتر يصيب قلبها على هذا الصوت، تسقط دون أن تنتبه تحمر خديها وتقوم بخجل، ترفع رأسها إذا بشاب طويل أسمر البشرة يصفق لها ويقول: "لكل جواد كبوة، لا تحزني إذا سقطت". يمسك يديها، تحمر خديها، ويساعدها على الوقوف، تنتبه أن أصابعهم قد تشابكت، تبتعد وتهرب وتخرج من القاعة دون أن تنبس ببنت شفة.

تذهب مسرعة الخطى إلى غرفة الاستراحة الخاصة، عيون تتلألأ من الخجل، قلب ينبض بسرعة كالخيل الجامح في سباق، شعور لم يسبق لها أن تمر به من هذا الشاب وما الذي يرمي إليه. تمر الأيام ويعود كل شيء لحاله، ويختفي الشاب إلا تفكير جوان أصبح مشوشًا بعد أن كان جل تفكيرها في التمارين فقط. تعود جوان للتمرين وتفكر كيف ستبهر الجميع في العرض القادم، فقد مرت بمراحل كثيرة حتى وصلت إلى ما هي عليه. مرة أخرى، وهي تتمرن بعد أن كان يعزف على البيانو أحد زملائها، وتشجعها رفيقاتها، أقدام تصدر صوتًا على أرضية التمارين من القادم. الجميع يلتفت له وتراه جوان في المرآة، إنه نفس الشاب الذي جاء تلك المرة يقدم نفسه ويقول: "أنا المدرب الجديد لكم، اسمي أحمد". الجميع يأخذ لحظة صمت مع النظر له ولجاذبيته، ثم يعود كل إلى عمله إلا جوان أصبحت مشتتة ولا قدرة لها على التمرن. كلام صارم من المدرب أحمد وهو يقول: "جوان، عودي إلى تمرين، أريد أن أختبرك الآن قبل العرض الذي سيكون يوم الجمعة". بقلب ينبض وخجل، تذهب جوان وتعود إلى تمرين، وهي تقول في نفسها: "سأتخيل أن لا أحد يراني وأقوم بجميع حركات الرقص". في المرة الأولى، أدت على كلا قدميها الناعمتين، ساقين مشدودتين، ركبها المفرودة، عضلاتها المشدودة تتحرك كالفراشة بخفة ورشاقة ولياقة وسرعة. صدرها المفتوح مع ضم عظم اللوح الرأس في وضعه، مع إغماض عينيها وعدم النظر للآخرين، فهي عندما تتمرن تغمض عينيها وتسافر إلى دنيا الأحلام وترقص وكأنها فصلت عن الواقع. ساق ثابتة وساق أخرى حرة، أدت معظم حركاتها في كل الاتجاهات.

بدأ المدرب أحمد يصفق لها بحرارة، ثم طلب منها أن تؤدي بعض القفزات الكبيرة مثل (حركة Jete entrelacé). الجميع في قاعة التمرين ينتظر منها هذه القفزة، وبدأ رفاقها يصفقون لها وينتظرونها أن تفعلها فقامت بخفة ورشاقة وعزم كبير، وهي تقول: "سأتخيل أنني وحدي هنا". تقفز جوان قفزة كبيرة كما لو أنها يبدو عليها أنها تطير، والجميع بدأ يهتف باسمها من زميلاتها ويصفقون لها. ابتسامة إعجاب على ملامح مدربها الجديد، وهو يقول: "أهنئك، لقد كنت رائعة". ابتسامة خجولة على محياها، وجهها القمري بدأ يحمر ويطأطأ خجلًا أمام مدربها، بصوت ناعم وخجول: "هذا من لطفك يا مدربي".كلام صارم ومحب من المدرب، ويقول: "أريدك أن تقومي بكل الحركات التي فعلتها اليوم في يوم العرض الجمعة، سيحضر كبار الشخصيات لمدينة ديار بكر". تعاهد جوان نفسها أنه يجب عليها أن تبهر الجميع وترضي روح والدتها التي تحت التراب وتسعد قلب أبيها المريض. الجميع يتأمل بها، لقد مرت الأيام بسرعة، وقامت بالتدريب لساعات طويلة مع مدربها أحمد وزميلاتها.

منذ نعومة أظافرها كانت تحلم بأن تصبح راقصة باليه مشهورة. ها هي اليوم، تقف على خشبة المسرح، مستعدة لتقديم عرضها الأخير. ثوب أبيض قصير، شعر مشدود إلى وراء، ملامح جميلة تلفت النظر، تقدمت جوان في مقدمة الفريق الذي يتكون من خمسة عشر راقصة ودخلوا بخطوات ناعمة على رؤوس اصابعهن أمام جميع الحضور.

كانت قد حضرت شخصيات مهمة في هذا المشهد السينمائي للرقص الباليه. صوت الموسيقى تصفيق الجماهير، الابتسامة الواثقة من المدرب أحمد، كي يؤدين الفتيات العرض بكل جمال وبراعة صوت الموسيقى تعزف، بدأت جوان وزميلاتها يرقصن رقص بحيرة البجع. كانت جوان في مقدمة الراقصات، وكنّ يتحركن بكل جمال وبراعة. حركاتهن خفيفة ورشيقة، و أقدامهن تتحرك بكل رشاقة على أرضية القاعة.

كانت جوان ترقص بدور البطولة، حيث تؤدي حركات البجعة بكل دقة. و زميلاتها يرقصن حولها، وكنّ يؤدين حركات البجع الصغير. الموسيقى تعزف بكل جمال، والراقصات يتحركن بكل انسجام. كانت جوان ترتدي ثوبًا أبيضًا رائعًا، و زميلاتها يرتدين أثوابًا بيضاء مماثلة ،أقدامهن تتحرك بكل رشاقة، وكنّ يؤدين حركات البجع بكل دقة.كانوا الجماهير متشوقين لمشاهدة هذا العرض الرائع، ويصفقون بكل حماس. 

قامت بلفت انتباه جميع من حضر، بعد أن قاموا بتأدية رقصة بحيرة البجع، وكل الرقصات حتى أخذوا فتيات الباليه وضع الانحناء. قفزت جوان قفزة كبيرة Jete entrelacé، أبهرت جميع الحضور. قام لهذا المشهد جميع الشخصيات المهمة، زهور ترمى على جوان، مدالية ذهبية تزين رقبتها مع طوق والدتها التي كانت ترتديه في سباق كي تأخذ منه الدفء والثقة.

بعد عودة الجميع الفتيات إلى غرفة الاستراحة، يطلب المدرب أحمد من جوان أن تنتظره كي يتحدث معها. تقف جوان إلى جنب أبيها وهي تنتظر مدربها، يقترب منها بخجل وحب، ويفتح علبة صغيرة فيها خاتم من الزمرد يلمع يلائم إصبعها الصغير، ويطلب منها الزواج أمام والداها. تخجل جوان وينبض قلبها ويتلعثم لسانها. يخرج جميع زملائها وهم يشجعونها على موافقة عرض الزواج هذا، بصوت ناعم وخجول وأبتسامة رضا من والداها، توافق جوان.

يصفق ويبارك لها الجميع، يحتضنها المدرب أحمد ويدور بها، يقبل يديها ويلبسها الخاتم. ملامح خجولة وعيون تلمع بريقًا، إنه نبض قلبها الذي بدأ يدق منذ أول مرة رأت المدرب أحمد. فرحتها بفوزها في العرض وتكريمها، سعادة والداها والآخرين من حولها، عثورها على فارس أحلامها، جعل حياتها كلها أمل وحب. فهي لم تفقد الأمل يومًا، وكانت نشيطة دومًا وحريصة أن ترقص الباليه بكل صدق وإخلاص.

أرتدت الثوب الأبيض وزفت جوان إلى مدربها أحمد الذي أصبح زوجها، كانت أجمل عروس تراها العيون. ابتسامة تبعث السعادة لمن حولها، حيث وجدت شريك حياتها في مدربها أحمد. كانت جوان سعيدة بنجاحها في الرقص وبزواجها من أحمد وشعرت بأنها حققت أحلامها. وتم حفل زفافها بحضور الأصدقاء ووالداها وكل محبيها ومشجعيها.