Type Here to Get Search Results !

من يملك المائدة

 


بلقيس خيري شاكر البرزنجي 

محافظة السليمانية/أقليم كوردستان العراق

يقف خلف النافذة، جسده النحيل يرتجف من البرد القارس، وأنفه المدبب تنزل منه قطرات المطر كالدموع الحزينة. عيناه الرماديتان المتعبتان تلتمعان بالدموع الحسرة والخيبة، وهو يحدق في المائدة التي تزخر بالطعام الشهي، البط المشوي يتصاعد منه الدخان العطر، والمكسرات تلمع كالذهب في الضوء الخافت. يبتلع ريقه من شدة الجوع، وتتقلص معدته الفارغة كأنها تتوسل الطعام.

يرتدي معطفه المرقّع، الذي حاكته له زوجته الراحلة بأيديها الحنونة. يضع يده التي تملأها التجاعيد في جيبه، ويخرج صورة قديمة لزوجته وابنتيه، ينظر إليها بعيون دامعة، ويمرر أصبعَه على وجه طفلته الصغيرة، كأنه يراها أمامه الآن، ملاكه البريء الذي سرقته الحياة.

تظلم السماء، ويزداد السواد الداكن، ولا نور يأتي من القمر، ولا مصابيح الشارع تضيء، فقد تعطلت بفعل المطر الغزير. تبكي السماء على حاله بحرقة المطر، وتسمع صوت الملائكة يصرخون في السماء: أيها الأغنياء، أين أنتم من هؤلاء الذين يموتون جوعًا؟ من أطعمكم وأنعم عليكم؟ لماذا لا تحمدون خالقكم وتعطفون على فقيركم؟

تضيء الأبنية، وتبدو كالقصور السحرية، بينما ملابس الرجل الفقير أصبحت مبللة تمامًا، ولا تدفئه، يشعر ببرد شديد يدق في عظمه، يجعله يرتجف وهو على عصاه. يحدق في العائلة الثرية التي تجلس حول المائدة، ضحكات أطفالهم ودفء جلستهم ترجع له شريط الذكرى مع عائلته البسيطة.

تطلق الأم المتكبرة نظرة بالصدفة اتجاه النافذة، وترى الفقير البائس يقف خلف النافذة، فتقوم بقلب قاسٍ وحاجبين معقودين، وتغلق الستارة بقوة وغضب. ينقطع المشهد عن الرجل البائس، وكأن الدنيا قد سلبته أمله.

يرحل الرجل الفقير، وتسقط روحه بين تراب الأرض، وتعرج إلى خالقها، وتفتح له ملائكة السماء بابًا من النور. يسمع صوتًا مألوفًا له، رائحة الياسمين تملأ المكان، والنور يخرج من بين يديه وقدميه كأن الشمس تقع تحته.

تناديه طفلته، يرى وجهها الملائكي البريء، تأتي إليه زوجته تمسك بيده، يرى ابنتيه يجلسان في حديقة مخضرة، تطير حولهم الحمامات البيضاء، النور يملأ المكان الذي يجلسون فيه، أمامهم ما لذ وطاب من الطعام اللذيذ.

يسمع صوت ضحكاتهم كأنغام البلابل تصدح في الجنائن. يبدأ بالركض اتجاه طفلتيه، يحتضنهما ويقبلهما، تجتمع العائلة في سماء الله وجنانه، وتبتهج الملائكة وتبتسم، فيخرج نور يضيء المشرق والمغرب.. تحلق حولهم الملائكة، تضرب بأجنحتها، تهبط منها الرحمة والبركة على مائدة الطعام التي أمامه هو وعائلته، في حضرة الجمال والنعيم الأبدي الخالد الذي لا ينقطع.

تسكن أرواحهم وتهدأ وتسعد للأبد في نعيم بلا انقطاع. الروح التي عانت من الحياة وشقيت فيها وتعبت، لم يعد لها القدرة على الاستمرار مع بقية أرواح هذا العالم الموحش القاسي الزائل، فهي مظلمة وقاسية، تنعم وتترف وتنام على الفرو المنعم والريش، وتنسى الفقراء الذين ينامون على الحجر المتجمد في الطرقات بحثًا عن بصيص أمل وحياة.