بقلم: بلقيس خيري شاكر البرزنجي
عندما يغادر النهار بثوب الغروب الأحمر، تظهر النجوم في السماء الزرقاء الداكنة، وتتلألأ كالألماس في فضاء واسع، وكأنها تهمس بالشعر في آذان الليل. تلك النجمة المهمومة عند الغروب تبث شكواها للغيمة، تخبرها أن هناك من يطالعها ويتألم من جوف قلبه، وتبدو وكأنها تبحث عن رفيق في سماء الوحدة.
بدأت الشمس ترحل وتطأطأ خجلًا، وتعكس ملامح حبيبتي نجوى الراحلة في ضوئها الأحمر الخافت، وكأنها تودعني برفق. تلك الحمامة البيضاء عادت قبل أن يحل الظلام، وهي تحمل الطعام لفراخها، تنقر الأرض برقة، وكأنها تجلب الحياة إلى عشه الصغير. لقد بنت عشها بالقرب من نافذة أبو نصري البخيل، الذي يبدو أنه لم يتعلم الرحمة من كثرة ما رآه من مآسي الحياة، فهو يجلس خلف نافذته كتمثال من الحجر.
جارتي العجوز المسنة التي تقابل نافذتها نافذتي، هي الأخرى تطالعني بدقة، تشعر أن هناك الكثير من الأحاديث المخبئة داخلي تنتظر مني لحظة البوح عن الكلمات التي تختبأ خلف جدار الصمت، وكأنها تبحث عن صديق في زمن الوحدة.
دقة يد أمي الحنونة على باب غرفتي وهي تناديني لتناول العشاء وتخشى عليّ من الجوع، لا تزال تراني ذلك المشاكس الصغير الذي يفر من الحياة ويهرب إليها كي يرتشف الحليب، وتلك الابتسامة الحانية التي تزيل عني عبء الحياة.
نظرات الشفقة بعين أختي الصغرى، قلبها البريء يجعل حدسها تقرأني، تعلم ما في قلبي، تقول لي بلغة العيون: "أود لو أخرجك من هذه الدوامة التي بداخلك كأعصار الصحراء"، وتلك اليد الصغيرة التي تمتد لتمسح دمعتي.
مفتاح غرفتي الذي تغير لونه من الذهبي إلى لون باهت، يود أن يقفل باب الغرفة عليه ويطير بأجنحته، يختبأ في صندوق جدتي العتيق ويجعلني أسير لتلك الخيالات والهلوسات التي تطاردني، وكأنه يبحث عن مخرج من سجن الواقع.
أراقب الناس المارة عند الغروب من شرفتي، أراهم منشغلين بأنفسهم، كل يحمل همومه في كيس ويسير وكأنه الوحيد في هذه الطرقات، وتلك الأصوات المختلفة التي تملأ الشارع.
صوت ذلك الطفل اليتيم وهو يتوسل الحلوى من البائع كي يأخذها بلا ثمن، فالجوع قد سرق منه براءته، وتلك الدموع التي تملأ عينيه. ذلك العجوز الذي يسير وهو يتكأ على عصاه، يرتجف من كبر سنه، يحمل كيسًا لزوجته المسنة، يحاول أن يسرع وهو يود أن يصل إلى بيته بسرعة كي يسعد زوجته العجوز، وتلك الخطوات البطيئة التي تخبرنا بقصة عمره الطويل.
تلك الفتاة البريئة ذات الأربعة عشر ربيعًا تبيع السجائر، تطلب من كل من هب ودب أن يشتري منها، أرى ملامح الخوف عليها كأنها ستحرم من وجبة العشاء إذا لم تبيع ما معها من السجائر، وتلك النظرات المتسولة التي تبحث عن أمل.
بائع الجرائد يسير ويرقص كالمجنون، ويرمي ما تبقى من جرائده لأن المغرورة الغنية وافقت أن تتزوجه، تطير جرائده وتحلق في سماء، يلتصق على نافذة غرفتي إحداها. أمسكها وأطالعها، وأرى هذا العالم المعتوه وهو يرضى بالحاكم الظالم ويصفق له على إنجازاته في السرقة والارتزاق،كلمات منمقة تحت صورة الرئيس الذي صعد على كرسيه بدماء الناس الأبرياء.
أعود مليئأ بالخيبات إلى سريري أود أن أنام كي ينتهي الليل بسرعة وتبزغ خيوط الفجر. شيء ما لمحته في الجريدة أيقظ في ذاكرتي البائسة صوت ذلك العراف وهو كان يبصر لي حظي في كرته الخداعة ويقول: "ستبقى تائهًا ضائعًا، ذات يوم تضيع روحك التي تسكن جسدك في مكان ما على قبر أحد الموتى ولا تجدها." أود أن أبعد هذه الهلوسة عني، أطالع صورة الفتاة الشقراء التي تمسك القطة، وهي معلقة على جدار غرفتي، ابتسامة بريئة على محياها توقظ بداخلي الأمل كي أحيا من جديد وأنهض من كومة القش المليئة بالأفكار السوداوية.
تأخذني التفاتة إلى جهة أخرى من غرفتي، يعود ذلك الظلام ويغطيني بالكامل، كأن سرب الخفافيش غطتني كليًا. يقف طائر الغراب على نافذتي، يراقبني بعينيه الخبيثة، يود أن يزعجني ويسرق تلك الحلوى التي صنعتها أختي ووضعتها على مكتبتي. أنهض من سريري وأطرق على نافذتي كي يطير هذا الأسود ويدعني وشأني، يأبى أن يحلق ويبقى يصدر صوته المزعج.
أنزل الستارة وأحاول النوم، أشعر أن جسدي لا يود أن ينام على الأريكة بل يود أن يمتلك أجنحة ويخترق سقف غرفتي ويطير بعيدًا في سماء الله البعيدة، يجد روح حبيبتي ويبث لها لواعج الشوق. مصباح الزيت في غرفتي بدأ ينطفئ، أنارة الشمعة لا تكفي وحدها كي تنير روحي الحزينة.
أغمض عيني وأتنفس بعمق، ثم لا شعورًا تتحرك أصابعي تتفاعل كأن هناك من يلمسها. أرفع جفوني وأرى خيال نجوى وهو يبتسم لي، تحمل لي زهرة جورية حمراء وترتدي البياض، تبدو كملاك الإنسانية الذي يتفقد اليتامى في الليل ويطعمهم. أنهض وأنا يدق قلبي بسرعة كالطبل الذي يعلن عن الحرب، وعيناي تفيض بالدمع، أود أن أحتضنها.
تختفي وتصدر صوتًا يشبه صقل الماسة. أبدأ بالصراخ وأرى أمي عند الباب تتأسى على حالتي، أعرف أنني كنت في حالة الهذيان. أعود محطم الجسد إلى سريري وأقول لأمي: "أريد جرعة دواء كي أكون معدوم الإحساس."
في هذه اللحظة، أشعر أنني محاصر بين الحقيقة والخيال، بين الأمل واليأس. لكنني أعرف أنني سأظل أبحث عن النور في ظلمات الحياة، سأظل أتمسك بالأمل مهما كانت الظروف قاسية.
تابعنا على